أفلا يتدبرون القرآن
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)، فِيهِ آيَاتٌ لِلْمُتَدَبِّرِينَ، وَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَلَائِكَتِكَ، وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَضِينَا بِكَ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَخَاتَمُ رُسُلِكَ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ، قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: (ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)([1]).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)([2]) إِنَّهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ)([3])، تَخْشَعُ لَهُ قُلُوبُ الْمُتَدَبِّرِينَ، وَتَخْضَعُ لَهُ نُفُوسُ الْمُتَفَكِّرِينَ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «اقْرَأْ عَلَيَّ». قُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي». فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) قَالَ: «أَمْسِكْ». فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ([4]). فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ يَا عِبَادَ اللَّهِ؛ خَشَعَ قَلْبُهُ، وَزَكَتْ نَفْسُهُ، وَسَمَتْ أَخْلَاقُهُ، وَتَغَيَّرَتْ حَيَاتُهُ، فَهَذَا سَيِّدُنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ سَمِعَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)([5])؛ تَأَمَّلَ مَعْنَاهَا، وَتَدَبَّرَهَا وَوَعَاهَا، فَأَسْرَعَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُعْلِنًا إِيمَانَهُ([6]). وَذَلِكَ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا القُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنْ مَوَاعِظَ بَلِيغَةٍ، وَحِكَمٍ عَظِيمَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)([7])، فَهُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْهِدَايَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّحْمَةِ لِلْعَالَمِينَ، قَالَ تَعَالَى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)([8]) فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مُتَدَبِّرِينَ، وَبِهَدْيِهِ عَاملِيِنَ، وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ، وَطَاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَطَاعَةِ مَنْ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ عَمَلًا بِقَوْلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)([9]). (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَكِيمِ الْحَمِيدِ، أَنْزَلَ إِلَيْنَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَيُّهَا الْمُتَدَبِّرُونَ لِكَلَامِ رَبِّهِمْ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)([10])، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَقْطِفَ ثَمَرَاتِهِ الْمُتَدَبِّرُونَ، فَيَزْدَادَ إِيمَانُهُمْ، وَيَتَرَسَّخَ يَقِينُهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)([11])، يَقْتَبِسُونَ مِنْهُ الْهُدَى وَالنُّورُ، وَيَجِدُونَ فِيهِ شِفَاءَ الصُّدُورِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)([12])، وَيَنَالُونَ بِتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ رَاحَةَ نُفُوسِهِمْ، وَانْشِرَاحَ صُدُورِهِمْ، وَطُمَأْنِينَةَ قُلُوبِهِمْ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)([13])، فَيَسْلُكُ بِهِمْ أَفْضَلَ السُّبُلِ وَأَيْسَرَهَا، وَأَحْسَنَ الطُّرُقِ وَأَقْوَمَهَا، وَيَكُونُ سَبَبَ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)([14]).
فَلْنُقْبِلْ عَلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ قِرَاءَةً وَحِفْظًا، وَتَدَبُّرًا وَفَهْمًا، وَتَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا، «فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ»([15]). هَذَا، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الْأَكْرَمِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ لِدَوْلَةِ الْإِمَارَاتِ أَمَانَهَا وَاسْتِقْرَارَهَا، وَأَدِمْ رَخَاءَهَا وَازْدِهَارَهَا، وَبَارِكْ فِي خَيْرَاتِهَا، وَاحْرُسْهَا بِرِعَايَتِكَ، وَاشْمَلْهَا بِعِنَايَتِكَ، وَسَائِرِ بِلَادِ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ رَئِيسَ الدَّوْلَةِ الشَّيْخ مُحَمَّدَ بْنَ زَايِدٍ وَنَائِبَهُ الشَّيخ محمد بن راشد وإخوانه حُكَّامَ الإِمَارَاتِ وَأَوْلِيَاءَ عُهُوْدِهِم، وَوَلِيَّ عَهْدِ دبي الشَّيخ حمدان بن محمد لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ.
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الشَّيخ زَايِد والشَّيخ راشد، وَالْقَادَةَ الْمُؤَسِّسِينَ، وَالشَّيخ مَكْتُوم، والشَّيخ خَلِيفَة بْن زَايِد، والشَّيخ حمدان وَشُيُوخَ الْإِمَارَاتِ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إِلَى رَحْمَتِكَ، وأدخلهم بفضلك فسيح جناتك. وَارْحَمْ شُهَدَاءَ الْوَطَنِ وَضَاعِفْ أَجْرَهُمْ، وَارْفَعْ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَتَهُمْ، وَشَفِّعْهُمْ فِي أَهْلِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ: الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. عِبَادَ اللَّهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
([1]) الحشر: 21.
([2]) البقرة: 2.
([3])آل عمران 3- 4.
([4]) متفق عليه. والآية من سورة النساء: 41.
([5]) طه: 14.
([6]) المستدرك على الصحيحين: 3872.
([7]) الزمر : 27-28.
([8]) العنكبوت: 51.
([9]) النساء: 59.
([10]) الحجر: 9.
([11]) الأنفال: 2
([12]) الإسراء: 82.
([13]) الأحقاف : 29 - 30.
([14]) طه: 123.
([15]) مسلم : 804.