اليقين
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، جَعَلَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ آيَاتٍ لِلْمُوقِنِينَ، وَأَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا رَسُولُهُ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَتَزَوَّدُوا عِبَادَ اللَّهِ مِنَ الْيَقِينِ، وَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ: (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)([1]).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ»([2])، إِنَّهُ الْيَقِينُ يَا عِبَادَ اللَّهِ، وَمَا أَدْرَاكُمْ مَا الْيَقِينُ، هُوَ «الْإِيمَانُ كُلُّهُ»([3])، أَعْظَمُ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَرَاهُ اللَّهُ (مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)([4]).
وَذَاكَ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلَغَ مِنَ الْيَقِينِ ذُرْوَتَهُ، فَلَمَّا قَالَ أَصْحَابُهُ: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)([5]). وَذَلِكُمْ نَبِيُّكُمْ وَحَبِيبُكُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ، ضَرَبَ أَرْوَعَ الْمُثُلِ فِي الْيَقِينِ، فَحِينَ حُوصِرَ فِي الْغَارِ، قَالَ (لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)([6]).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ يَقِينَكُمْ بِرَبِّكُمْ، يَكُونُ بِإِيمَانِكُمْ بِوُجُودِهِ، وَاعْتِقَادِكُمْ بِجَلَالِهِ، وَكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، إِيمَانًا لَا تُخَالِطُهُ الشُّكُوكُ، وَلَا تُزَعْزِعُهُ الشُّبُهَاتُ، إِيمَانًا يَقْتَضِي اسْتِشْعَارَ مَعِيَّتِهِ، وَيَسْتَدْعِي التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ، فَفِيهِ (بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)([7])، تَأَمَّلُوا صَفَحَاتِ كَوْنِهِ، وَدِقَّةَ صُنْعِهِ، لِتُوقِنُوا بِمُطْلَقِ قُدْرَتِهِ، فَفِي (الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)([8]). نَعَمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ، عَزِّزْ يَقِينَكَ بِاللَّهِ الْمُدَبِّرِ الْحَكِيمِ، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى)([9]) إِنْ أَعْطَى فَهُوَ اللَّطِيفُ، وَإِنْ مَنَعَ فَهُوَ الْخَبِيرُ،
(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)([10]) وَإِنِ ابْتَلَى فَهُوَ الرَّحِيمُ، وَإِنْ عَافَى فَهُوَ الْعَلِيمُ. (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)([11]) فَيَا مَنْ تَسْعَى لِتَحْصِيلِ رِزْقِكَ، كُنْ عَلَى يَقِينٍ بِعَطَاءِ رَبِّكَ، وَأَيْقِنْ بِأَنَّ الرِّزْقَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، ثِقْ بِحِكْمَتِهِ فِي قِسْمَتِهِ، فَهُوَ الْقَائِلُ: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)([12]). فَمَا بَالُ أَحَدِنَا يَجْزَعُ وَيَتَأَفَّفُ، وَيَقْلَقُ عَلَى مُسْتَقْبَلِهِ، وَيُقَارِنُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، إِنْ نَقَصَ رِزْقُهُ، يَقُولُ لِمَاذَا أُعْطِيَ فُلَانٌ وَلَمْ أُعْطَ؟ وَلِمَاذَا رُزِقَ وَلَمْ أُرْزَقْ؟ أَلَمْ يَتَأَمَّلْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ)([13])، أَوَلَمْ يَتَدَبَّرْ قَوْلَ نَبِيِّنَا ﷺ: «لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا»([14]). فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، امْلَؤُوا قُلُوبَكُمْ بِالْيَقِينِ، وَثِقُوا فِي عَطَاءِ رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ، فَكَمْ مِنْ مُبْتَلًى فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، لَوِ اسْتَحْضَرَ الْيَقِينَ فِي قَلْبِهِ، لَتَلَاشَى عَنْهُ مَا أَهَمَّهُ وَأَغَمَّهُ.
وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
يَقِينِي يَقِينِي مِنْ هُمُومِي وَكُرْبَتِي ** وَخَيْرُ عَتَادِ الْمَرْءِ صِدْقُ يَقِينِهِ
كُنْ يَا عَبْدَ اللَّهِ مُتَيَقِّنًا بِرَحَمَاتِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ لَحَظَاتِكَ، فَعَلَى قَدْرِ يَقِينِكَ بِرَبِّكَ، يَتَحَقَّقُ مُرَادُكَ، سَلِ اللَّهَ الْيَقِينَ، وَاتَّخِذِ الْأَسْبَابَ فِي كُلِّ آنٍ وَحِينٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)([15]).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)([16]).
أَقُولُ قَوْلِي، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ رَبِّي
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَعَبْدِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَ هَدْيَهُ مِنْ بَعْدِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا الْمُوقِنُونَ: اعْلَمُوا أَنَّ الْيَقِينَ مِلَاكُ الْقَلْبِ، وَطُمَأْنِينَةُ الْفُؤَادِ، وَسَكِينَةُ الرُّوحِ، وَرَاحَةُ النَّفْسِ، بِهِ يُكْفَى الْمُوقِنُ مَا أَهَمَّهُ، وَيَرْضَى بِمَا كُتِبَ لَهُ، وَيُوَفَّقُ لِلصَّبْرِ عَلَى مَا أَصَابَهُ، مِصْدَاقُ ذَلِكَ دُعَاءُ النَّبِيِّ ﷺ: «اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا»([17]). ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَبْلُغُ الْمُوقِنُونَ مَنَازِلَ الصَّابِرِينَ، وَيُجْزَوْنَ جَزَاءَ الْمُحْتَسِبِينَ، وَيَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَوْزِ وَالْفَلَاحِ الْمُبِينِ، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ: (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)([18]).
أَلَا فَتَعَاهَدُوا عِبَادَ اللَّهِ شَجَرَةَ يَقِينِكُمْ بِالِاهْتِمَامِ، اجْعَلُوا الْيَقِينَ رَفِيقَكُمْ، وَسَلُوا رَبَّكُمْ أَنْ يَمْلَأَ بِهِ قُلُوبَكُمْ، تَسْعَدُوا فِي دُنْيَاكُمْ، وَتَفُوزُوا فِي آخِرَتِكُمْ.
هَذَا وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الْأَكْرَمِينَ.
أَيُّهَا الْمُوقِنُونَ: إِنِّي دَاعٍ فَأَمِّنُوا، «وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ»([19]): "اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا يَقِينًا بِكَ حَتَّى تَهُونَ عَلَيْنَا مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَحَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُنَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَنَا وَعَلَيْنَا، وَلَا يَأْتِينَا مِنَ الرِّزْقِ إِلَّا مَا قَسَمْتَهُ لَنَا"([20]) اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِكَ مُوقِنِينَ، وَلَكَ عَابِدِينَ، وَإِلَيْكَ مُنِيبِينَ، وَبِوَالِدِينَا بَارِّينَ، وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ أَدِمِ الِاسْتِقْرَارَ عَلَى دَوْلَتِنَا، وَأَتِمَّ الْعَافِيَةَ عَلَيْنَا، وَوَسِّعْ لَنَا فِي أَرْزَاقِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ رَئِيسَ الدَّوْلَةِ الشَّيْخ مُحَمَّد بْن زَايِد وَنُوَّابَهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ الْأَمِينَ وَالشَّيْخَ مُحَمَّد بْنَ رَاشِد وَوَلِـيَّ عَهْدِهِ وَنُوَّابَهُ وَإِخْوَانَهُ حُكَّامَ الْإِمَارَاتِ، وَأَوْلِيَاءَ عُهُودِهِمْ؛ لِكُلِّ خَيْرٍ. اللَّهُمَّ ارْحَمِ الشّيخ زَايد، وَالشّيخ رَاشِد، وَالْقَادَةَ الْمُؤَسِّسِينَ، وَأَدْخِلْهُمْ بِفَضْلِكَ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَاشْمَلْ شُهَدَاءَ الْوَطَنِ بِرَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ.
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)([21]).
عِبَادَ اللَّهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
([1]) آل عمران: 179.
([2]) أحمد: 38. وقد رواه النسائي في السنن الكبرى من طريق جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْر: 10654
([3]) البخاري تعليقا في كتاب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: 1/11.
([4]) الأنعام: 75.
([5]) الشعراء: 61-62.
([6]) التوبة: 40.
([7]) الجاثية: 20.
([8]) الذاريات: 20-21.
([9]) الأعلى: 2-3.
([10]) الملك: 14.
([11]) البقرة: 216.
([12]) الإسراء: 30.
([13]) الحديد: 29.
([14]) شعب الإيمان للبيهقي: 1141.
([15]) الرعد: 2
([16]) النساء: 59.
([17]) الترمذي: 3502.
([18]) البقرة: 4-5.
([19]) الترمذي: 3479.
([20]) اليقين لابن أبي الدنيا، ص: 41. والدعاء من قول عطاء الخراساني.
([21]) البقرة: 201.