الموظف النزيه
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُجْزِلُ الثَّوَابَ لِلْمُحْسِنِينَ، وَلَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ، قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)([1]).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِرَاعٍ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَبِيعَنَا شَاةً؟ فَقَالَ: إِنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ -يَخْتَبِرُ نَزَاهَتَهُ-: قُلْ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَيْهَا: أَكَلَهَا الذِّئْبُ. فَرَفَعَ الرَّاعِي رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ فَمَا زَالَ ابْنُ عُمَرَ يُرَدِّدُهَا وَيَقُولُ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ فَأَيْنَ اللَّهُ؟([2]). يَا لَهَا مِنْ كَلِمَةٍ عَظِيمَةٍ جَلِيلَةٍ؛ يَسْتَصْحِبُهَا كُلُّ مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمَانَةً، فِي أَيِّ مَجَالٍ كَانَ، لَاسِيَّمَا الْعَامِلُ فِي عَمَلِهِ، وَالْمُوَظَّفُ فِي وَظِيفَتِهِ؛ فَيُرَاقِبُ رَبَّهُ، وَيُخْلِصُ فِي عَمَلِهِ، مُتَمَثِّلًا قَوْلَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : «اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»([3]).
أَجَلْ، إِنَّهُ الْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ؛ الَّذِي يَسْتَشْعِرُ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي وَظِيفَتِهِ، فَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا، وَيَسْتَحْضِرُ مَسْؤُولِيَّتَهُ عَنْهَا، مُهْتَدِيًا بِقَوْلِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ»([4]). فَيُؤَدِّي وَاجِبَهُ تُجَاهَهَا بِأَمَانَةٍ وَنَزَاهَةٍ، عَامِلًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)([5]). فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الِالْتِزَامِ بِمَوَاعِيدِ عَمَلِهِ، فَلَا يَتَمَارَضُ وَلَا يَتَكَاسَلُ، وَلَا يَتَهَرَّبُ وَلَا يَتَوَانَى، مُسْتَذْكِرًا قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)([6])؟ فَلَا يُضَيِّعُ وَقْتَهُ بِالْأَحَادِيثِ الْجَانِبِيَّةِ مَعَ زُمَلَائِهِ، أَوِ الِانْشِغَالِ بِهَاتِفِهِ؛ بَلْ يُقْبِلُ عَلَى وَظِيفَتِهِ بِكُلِّ إِخْلَاصٍ وَوَطَنِيَّةٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِيجَابِيَّةٍ، مُغْتَنِمًا سَاعَاتِ عَمَلِهِ، بِإِنْجَازِ مَهَامِّهِ؛ بِكُلِّ صِدْقٍ وَتَفَانٍ، وَحِرَفِيَّةٍ وَإِتْقَانٍ، فَـ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ»([7]). كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
عِبَادَ اللَّهِ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَسْمَى مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ؟ التَّعَاوُنُ مَعَ زُمَلَائِهِ (عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)([8])، وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ «كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»([9]). يُقَدِّرُ جُهُودَهُمْ، وَلَا يُقَلِّلُ مِنْ إِنْجَازَاتِهِمْ، وَيَسْعَى فِي إِنْجَاحِهِمْ، «يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»([10]). لَا يَحْقِدُ وَلَا يَحْسِدُ، لَا يَغْتَابُ وَلَا يَنُمُّ، بَلْ يَكُونُ عَوْنًا لَهُمْ وَمُعِينًا، «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»([11]). وَالْمُوَظَّفُ النَّزِيهُ هُوَ ذَلِكَ الْمُثَابِرُ؛ الَّذِي يُطَوِّرُ كُلَّ يَوْمٍ عُلُومَهُ وَخِبْرَاتِهِ، وَيُنَمِّي مَعَارِفَهُ وَمَهَارَاتِهِ، عَامِلًا بِقَوْلِ رَبِّهِ: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)([12])، فَتَرَاهُ أُسْوَةً لِزُمَلَائِهِ الْجُدُدِ، يَجُودُ بِعِلْمِهِ عَلَيْهِمْ، وَيَنْقُلُ مَعَارِفَهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَبْخَلُ بِخِبْرَتِهِ عَنْهُمْ، فَهَنِيئًا لَهُ وَعْدُ رَبِّهِ: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)([13]). فَاللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شُؤُونِ حَيَاتِنَا، وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّفَانِي فِي عَمَلِنَا، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)([14]).
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَ هَدْيَهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْمُوَظَّفَ النَّزِيهَ هُوَ الَّذِي يُحَافِظُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْوَطَنِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى مَصْلَحَتِهِ الْخَاصَّةِ، ويَحْرِصُ عَلَى مُؤَسَّسَتِهِ حِرْصَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَمُمْتَلَكَاتِهِ، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْمُوَظَّفُونَ فِي مُؤَسَّسَاتِكُمْ، حَافِظُوا عَلَى أَمْوَالِهَا كَمَا تُحَافِظُونَ عَلَى أَمْوَالِكُمْ، وَصُونُوا مَرَافِقَهَا كَمَا تَصُونُونَ بُيُوتَكُمْ، لَا تُبَدِّدُوا مُقَدَّرَاتِهَا، وَلَا تُضَيِّعُوا أَمَانَاتِهَا، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)([15])، وَلَا تُسْرِفُوا فِي مُخَصَّصَاتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ (لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)([16]). وَاسْتَبْرِئُوا لِدِينِكُمْ وَذِمَّتِكُمْ، فَلَا تَقْبَلُوا مَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنَ الْهَدَايَا وَالْعَطَايَا، فَمَهْمَا تَنَوَّعَتْ أَسْمَاؤُهَا فَهِيَ مِنَ الرَّشَاوَى؛ الَّتِي قَالَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ -أَيْ: مِمَّا أُهْدِيَ إِلَيْهِ بِسَبَبِ وَظِيفَتِهِ- إِلَّا طِيفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ»([17])، وَاحْفَظُوا أَسْرَارَ عَمَلِكُمْ، أَثْنَاءَ خِدْمَتِكُمْ وَبَعْدَ تَقَاعُدِكُمْ؛ كَمَا تَحْفَظُونَ خُصُوصِيَّاتِكُمْ.
وَإِنْ جَعَلَكَ اللَّهُ مَسْؤُولًا أَيُّهَا الْمُوَظَّفُ عَنْ غَيْرِكَ؛ فَكُنْ عَلَى حَقِّهِ أَمِينًا، وَفِي مُعَامَلَتِهِ رَفِيقًا، فَـ «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ»([18]). امْدَحْ صَنِيعَهُ إِنْ أَحْسَنَ، وَلَا تُكْثِرْ عَلَيْهِ اللَّوْمَ وَالْعِتَابَ إِنْ أَخْطَأَ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ رَبِّكَ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)([19]). وَلْنَتَذَكَّرْ جَمِيعًا أَنَّ دَوْلَةَ الْإِمَارَاتِ بقِيَادَتِهَا الْحَكِيمَةِ؛ قَدْ سَنَّتْ قَوَانِينَ تَشْرِيعِيَّةً تُعْلِي مَنْزِلَةَ الْأَخْلَاقِ الْمِهْنِيَّةِ، فَلْنَلْتَزِمْ بِهَا، وَلْنَسْتَثْمِرْهَا فِي تَمَيُّزِ مُؤَسَّسَاتِنَا، وَإِسْعَادِ مُجْتَمَعِنَا، وَرِفْعَةِ الْوَطَنِ.
هَذَا وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الْأَكْرَمِينَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِكَ مُؤْمِنِينَ، وَلَكَ عَابِدِينَ، وَإِلَيْكَ مُنِيبِينَ، وَبِهَدْيِ نَبِيِّكَ مُقْتَدِينَ، وَبِوَالِدِينَا بَارِّينَ، وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَدِمْ عَلَى دَوْلَةِ الْإِمَارَاتِ الِاسْتِقْرَارَ وَالْأَمَانَ، وَعُمَّ الْعَالَمَ بِالرَّحْمَةِ وَالسَّلَامِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ رَئِيسَ الدَّوْلَةِ الشَّيْخ مُحَمَّد بْن زَايِد وَنُوَّابَهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ الْأَمِينَ وَالشَّيْخَ مُحَمَّد بْنَ رَاشِد وَوَلِـيَّ عَهْدِهِ وَنُوَّابَهُ وَإِخْوَانَهُ حُكَّامَ الْإِمَارَاتِ، وَأَوْلِيَاءَ عُهُودِهِمْ؛ لِكُلِّ خَيْرٍ.
اللَّهُمَّ ارْحَمِ الشّيخ زَايد، وَالشّيخ رَاشِد، وَالْقَادَةَ الْمُؤَسِّسِينَ، وَأَدْخِلْهُمْ بِفَضْلِكَ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَاشْمَلْ شُهَدَاءَ الْوَطَنِ بِرَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ. اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ: الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)([20]).
عِبَادَ اللَّهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.
([1]) الحشر: 18.
([2]) المعجم الكبير للطبراني: 13054.
([3]) متفق عليه.
([4]) النسائي في الكبرى: 9129، وصحيح ابن حبان: 5103.
([5]) البقرة: 283.
([6]) العلق: 14.
([7]) مسند أبي يعلى: 4386.
([8]) المائدة: 2.
([9]) متفق عليه.
([10]) متفق عليه.
([11]) مسلم: 2699.
([12]) طه: 114.
([13]) الكهف: 30.
([14]) النساء: 59.
([15]) الأنفال: 58.
([16]) الأعراف: 31.
([17]) متفق عليه.
([18]) مسلم:2594.
([19]) آل عمران: 159.
([20]) البقرة: 201.