‏والكاظمين الغيظ

Jumuah, 17 Sha'ban 1444 AH
10/03/2023
+ -

الْخُطْبَةُ الْأُولَى

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَثَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كَظْمِ غَيْظِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ بِمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَلَائِكَتِكَ، وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، رَضِينَا بِكَ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى رِضْوَانِهِ وَجَنَّاتِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ‌وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)([1]). فَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ، يُبَيِّنُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ أَنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ مِنْ صِفَاتِ الْمُتَّقِينَ، وَسِمَاتِ الْمُحْسِنِينَ. وَ‌الْغَيْظُ: هُوَ ‌الْغَضَبُ الشَّدِيدُ. وَالْكَاظِمُونَ غَيْظَهُمْ، هُمُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ عِنْدَ الْغَضَبِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَكُفُّونَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُمْ، مُبْتَغِينَ مِنَ اللَّهِ أَجْرَهُمْ([2])، فَيُعْظِمُ سُبْحَانَهُ ثَوَابَهُمْ، وَيُحْسِنُ جَزَاءَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ؛ مِنْ ‌جُرْعَةِ ‌غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ»([3]).

وَقَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى عَاقِبَةً مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ([4]). فَكَظْمُ الْغَيْظِ تَعْقُبُهُ حَلَاوَةٌ فِي النَّفْسِ، وَطُمَأْنِينَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَحَبَّةٌ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، وَيَنْتُجُ عَنْهُ تَرَاحُمٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَتَآلُفٌ لِقُلُوبِهِمْ، وَدَوَامٌ لِلْمَوَدَّةِ بَيْنَهُمْ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ كَظْمَ الْغَيْظِ خَصْلَةٌ عَلِيَّةٌ، وَهُوَ مِنَ الْأَخْلَاقِ النَّبَوِيَّةِ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَجَبَذَهُ رَجُلٌ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، أَثَّرَتْ فِي عَاتِقِهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَبَسَّمَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ([5]). فَمَنِ اقْتَدَى بِهَدْيِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، فَكَظَمَ غَيْظَهُ، وَبَسَطَ حِلْمَهُ؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْتَبْشِرًا بِأَجْرِهِ، قَدِ امْتَلَأَ قُلْبُهُ رَجَاءً فِي خَالِقِهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : «‌وَمَنْ ‌كَظَمَ ‌غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([6]). أَيِ: اطْمِئْنَانًا بِمَا يَجِدُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِفْعَةِ الدَّرَجَاتِ، وَعَظِيمِ الْحَسَنَاتِ. فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِلْغَيْظِ كَاظِمِينَ، وَبِالْجَنَّةِ فَائِزِينَ، وَوَفِّقْنَا جَمِيعًا لِطَاعَتِكَ، وَطَاعَةِ رَسُولِكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَطَاعَةِ مَنْ أَمَرْتَنَا بِطَاعَتِهِ عَمَلًا بِقَوْلِكَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُم، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، أَعَدَّ لِكَاظِمِ غَيْظِهِ أَعْظَمَ جَزَاءٍ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا يُعِينُنَا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ، فَحَثَّ عَلَى تَجَنُّبِ أَسْبَابِ الْغَضَبِ، فَقَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ الْوَصِيَّةَ: «‌لَا ‌تَغْضَبْ»([7]). فَكَمْ مِنْ مَوْقِفٍ لَمْ يَكْظِمِ الْإِنْسَانُ فِيهِ غَيْظَهُ؛ فَأَعْقَبَهَ فَسَادُ عَلَاقَاتٍ، وَقَطْعُ صِلَاتٍ، وَوُقُوعُ مُشْكِلَاتٍ، فَعَلَى الْمَرْءِ إِذَا غَلَبَهُ الْغَضَبُ؛ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسَهُ، وَيَكُفَّ لِسَانَهُ([8])، وَيَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ([9])، وَيَسْتَحْضِرَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْكَاظِمِينَ غَيْظَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُبَاهِي بِهِمُ الْخَلَائِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : «‌مَنْ ‌كَظَمَ ‌غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ ‌يُنْفِذَهُ؛ دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([10]). ثُمَّ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)([11]).

فَيَا لَهُ مِنْ جَزَاءٍ عَظِيمٍ، يَفُوزُ بِهِ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَحَافَظَ عَلَى حُسْنِ تَعَامُلِهِ؛ فِي بَيْتِهِ وَعَمَلِهِ، وَمَعَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، وَأَرْحَامِهِ وَجِيرَانِهِ، وَرُفَقَائِهِ وَزُمَلَائِهِ، وَمَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.

هَذَا وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الْأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ احْفَظْ لِدَوْلَةِ الْإِمَارَاتِ أَمَانَهَا وَاسْتِقْرَارَهَا، وَأَدِمْ رَخَاءَهَا وَازْدِهَارَهَا، وَبَارِكْ فِي خَيْرَاتِهَا، وَاحْرُسْهَا بِرِعَايَتِكَ، وَاشْمَلْهَا بِعِنَايَتِكَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ رَئِيسَ الدَّوْلَةِ الشَّيْخ مُحَمَّدَ بْنَ زَايِدٍ وَنَائِبَهُ الشَّيخ محمد بن ‏راشد وإخوانه حُكَّامَ الإِمَارَاتِ وَأَوْلِيَاءَ ‏عُهُوْدِهِم، وَوَلِيَّ عَهْدِ دبي الشَّيخ حمدان بن محمد لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ.

اللَّهُمَّ ارْحَمِ الشَّيخ زَايِد والشَّيخ راشد، وَالْقَادَةَ الْمُؤَسِّسِينَ، وَالشَّيخ مَكْتُوم، والشَّيخ خَلِيفَة بْن زَايِد، والشَّيخ حمدان ‏وَشُيُوخَ الْإِمَارَاتِ الَّذِينَ انْتَقَلُوا إِلَى رَحْمَتِكَ، وأدخلهم بفضلك فسيح ‏جناتك. وَارْحَمْ شُهَدَاءَ الْوَطَنِ وَضَاعِفْ أَجْرَهُمْ، وَارْفَعْ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَتَهُمْ، وَشَفِّعْهُمْ فِي أَهْلِهِمْ.

‌‌اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ ‌الْهُدَى ‌وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ: الْأَحْيَاءَ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتَ. اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا.

عِبَادَ اللَّهِ: اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ.


([1]) آل عمران: 133- 134.

([2]) تفسير ابن كثير: (2/122).

([3]) ابن ماجه: ٤١٨٩، والأدب المفرد: 1381.

([4]) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (2/220).

([5]) متفق عليه.

([6]) المعجم الصغير للطبراني: 681.

([7]) البخاري: 6116.

([8]) الأدب المفرد: 245.

([9]) متفق عليه.

([10]) أبو داود:47777

([11]) آل عمران: 136.

تحميل
مقياس السعادة